فصل: تفسير الآيات (166- 171):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (160- 165):

{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)}
الباء في قوله: {فَبِظُلْمٍ} للسببية، والتنكير والتنوين للتعظيم، أي: فبسبب ظلم عظيم حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم، لا بسبب شيء آخر، كما زعموا أنها كانت محرّمة على من قبلهم.
وقال الزجاج: هذا بدل من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم} [النساء: 155، المائدة: 13]. والطيبات المذكورة هي ما نصه الله سبحانه: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] الآية {وَبِصَدّهِمْ} أنفسهم وغيرهم {عَن سَبِيلِ الله} وهو اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتحريفهم، وقتلهم الأنبياء، وما صدر منهم من الذنوب المعروفة. وقوله: {كَثِيراً} مفعول للفعل المذكور، أي: بصدّهم ناساً كثيراً، أو صفة مصدر محذوف، أي: صدّاً كثيراً {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} أي: معاملتهم فيما بينهم بالربا، وأكلهم له، وهو محرّم عليهم {وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل} كالرشوة والسحت الذي كانوا يأخذونه.
قوله: {لكن الراسخون في العلم مِنْهُمْ} استدراك من قوله: {وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أو {مّنَ الذين هَادُواْ} وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا: إن هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل، وأنت تحلها، فنزل: {لكن الراسخون} والراسخ: هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه، والرسوخ: الثبوت.
وقد تقدّم الكلام عليه في آل عمران. والمراد عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ونحوهما. والراسخون مبتدأ، ويؤمنون خبره، والمؤمنون معطوف على الراسخون. والمراد بالمؤمنين: إما من آمن من أهل الكتاب، أو من المهاجرين والأنصار، أو من الجميع. قوله: {والمقيمين الصلاة} قرأ الحسن، ومالك بن دينار، وجماعة: {والمقيمون الصلاة} على العطف على ما قبله، وكذا هو في مصحف ابن مسعود، واختلف في وجه نصبه على قراءة الجمهور على أقوال: الأوّل قول سيبويه أنه نصب على المدح، أي: وأعني المقيمين. قال سيبويه: هذا باب ما ينتصب على التعظيم، ومن ذلك: {والمقيمين الصلاة} وأنشد:
وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم ** إلا نميراً أطاعت أمر غاويها

الطاعنين ولما يطعنوا أحدا ** والقائلون لمن دار نخليها

وأنشد:
لا يبعدنّ قومي الذين هم ** سمّ العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك ** والطيبون معاقد الأزر

قال النحاس: وهذا أصح ما قيل في المقيمين.
وقال الكسائي، والخليل: هو معطوف على قوله: {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} قال الأخفش: وهذا بعيد لأن المعنى يكون هكذا: ويؤمنون بالمقيمين. ووجهه محمد بن يزيد المبرد بأن المقيمين هنا هم الملائكة، فيكون المعنى: يؤمنون بما أنزل إليك، وبما أنزل من قبلك، وبالملائكة، واختار هذا.
وحكى أن النصب على المدح بعيد؛ لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر، وخبر الرّاسخون هو قوله: {أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} وقيل: إن المقيمين معطوف على الضمير في قوله: {مِنْهُمْ} وفيه أنه عطف على مضمر بدون إعادة الخافض.
وحكى عن عائشة أنها سئلت، عن المقيمين في هذه الآية، وعن قوله تعالى: {إِنْ هاذان لساحران} [طه: 63] وعن قوله: {والصابئون} [المائدة: 69] في المائدة؟ فقالت: يا ابن أخي الكتاب أخطئوا. أخرجه عنها أبو عبيد في فضائله، وسعيد ابن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر.
وقال أبان بن عثمان كان الكاتب يملي عليه، فيكتب فكتب: {لكن الراسخون في العلم مِنْهُمْ والمؤمنون} ثم قال ما أكتب؟ فقيل له أكتب: {والمقيمين الصلاة} فمن ثم وقع هذا. أخرجه عنه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر. قال القشيري: وهذا باطل؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة، فلا يظن بهم ذلك. ويجاب عن القشيري بأنه قد روى عن عثمان بن عفان أنه لما فرغ من المصحف وأتى به إليه قال: أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنها. أخرجه عنه ابن أبي داود من طرق.
وقد رجح قول سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير، ورجح قول الخليل، والكسائي ابن جرير الطبري، والقفال، وعلى قول سيبويه تكون الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر على قول من قال: إن خبر {الرّاسخون} هو قوله: {أولئك سَنُؤْتِيهِمْ} أو بين المعطوف والمعطوف عليه إن جعلنا الرّاسخون هو يؤمنون، وجعلنا قوله: {والمؤتون الزكواة} عطفاً على المؤمنون لا على قول سيبويه أن المؤتون الزكاة مرفوع على الابتداء، أو على تقدير مبتدأ محذوف، أي: هم المؤتون الزكاة. قوله: {والمؤمنون بالله واليوم الآخر} هم مؤمنو أهل الكتاب، وصفوا أوّلاً بالرسوخ في العلم، ثم بالإيمان بكتب الله، وأنهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون بالله، واليوم الآخر. وقيل المراد بهم: المؤمنون من المهاجرين والأنصار، كما سلف، وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف، والإشارة بقوله: {أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} إلى {الرّاسخون} وما عطف عليه.
قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ} هذا متصل بقوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب} والمعنى: أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدّمه من الأنبياء، فما بالكم تطلبون منه ما لم يطلبه أحد من المعاصرين للرسل، والوحي إعلام في خفاء، يقال: وحى إليه بالكلام وحياً، وأوحى يوحى إيحاء، وخصّ نوحاً لكونه أوّل نبيّ شرعت على لسانه الشرائع، وقيل: غير ذلك، والكاف في قوله: {كَمَا} نعت مصدر محذوف، أي: إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح، أو حال، أي: أوحينا إليك هذا الإيحاء حال كونه مشبهاً بإيحائنا إلى نوح. قوله: {وَأَوْحَيْنَا إلى إبراهيم} معطوف على {أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ} {وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ} وهم أولاد يعقوب كما تقدّم {وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وهارون وسليمان} خص هؤلاء بالذكر بعد دخولهم في لفظ النبيين تشريفاً لهم كقوله: {وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98]، وقدّم عيسى على أيوب، ومن بعده مع كونهم في زمان قبل زمانه، ردّاً على اليهود الذي كفروا به، وأيضاً فالواو ليست إلا لمطلق الجمع.
قوله: {وَءاتَيْنَا * دَاوُود زَبُوراً} معطوف على أوحينا. والزبور: كتاب داود. قال القرطبي: وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم، ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ. انتهى. قلت: هو مائة وخمسون مزموراً. والمزمور: فصل يشتمل على كلام لداود يستغيث بالله من خصومه، ويدعو الله عليهم ويستنصره، وتارة يأتي بمواعظ، وكان يقول ذلك في الغالب في الكنيسة، ويستعمل مع تكلمه بذلك شيئاً من الآلات التي لها نغمات حسنة، كما هو مصرّح بذلك في كثير من تلك المزمورات. والزبر: الكتابة. والزبور بمعنى المزبور، أي: المكتوب. كالرسول، والحلوب، والركوب. وقرأ حمزة: {زَبُوراً} بضم الزاي، جمع زبر كفلس وفلوس. والزبر بمعنى المزبور، والأصل في الكلمة التوثيق يقال بئر مزبورة، أي: مطوية بالحجارة، والكتاب سمي زبوراً لقوّة الوثيقة به. قوله: {وَرُسُلاً} منصوب بفعل مضمر يدل عليه {أَوْحَيْنَا} أي: وأرسلنا رسلاً {قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} وقيل: هو منصوب بفعل دلّ عليه {قصصناهم} أي: وقصصنا رسلاً، ومثله ما أنشده سيبويه:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ** أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به ** وحدي وأخشى الرياح والمطرا

أي: وأخشى الذئب. وقرأ أبيّ: {رُسُلُ} بالرفع على تقدير، ومنهم رسل. ومعنى: {مِن قَبْلُ} أنه قصة عليه من قبل هذه السورة، أو من قبل هذا اليوم. قيل: إنه لما قصّ الله في كتابه بعض أسماء أنبيائه، ولم يذكر أسماء بعض قالت اليهود: ذكر محمد الأنبياء، ولم يذكر موسى، فنزل: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} وقراءة الجمهور برفع الاسم الشريف على أن الله هو الذي كلم موسى. وقرأ النخعي، ويحيى ابن وثاب بنصب الاسم الشريف على أن موسى هو الذي كلم الله سبحانه و{تَكْلِيماً} مصدر مؤكد. وفائدة التأكيد دفع توهم كون التكليم مجازاً، كما قال الفراء إن العرب تسمى ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأيّ طريق. وقيل: ما لم يؤكد بالمصدر، فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. قال النحاس: وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً.
قوله: {رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} بدل من رسلاً الأوّل، أو منصوب بفعل مقدّر، أي: وأرسلنا، أو على الحال بأن يكون رسلاً موطئاً لما بعده، أو على المدح، أي: مبشرين لأهل الطاعات، ومنذرين لأهل المعاصي. قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} أي: معذرة يعتذرون بها، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك}
[طه: 134] وسميت المعذرة حجة مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة تنبيهاً على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضلاً منه ورحمة. ومعنى قوله: {بَعْدَ الرسل} بعد إرسال الرسل {وَكَانَ الله عَزِيزاً} لا يغالبه مغالب {حَكِيماً} في أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد: {وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً} قال: أنفسهم وغيرهم عن الحق.
وأخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {لكن الراسخون في العلم مِنْهُمْ} قال: نزلت في عبد الله بن سلام، وأسيد بن شعبة، وثعلبة بن شعبة حين فارقوا اليهود وأسلموا.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل عنه أن بعض اليهود قال: يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فأنزل الله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية.
وأخرج عبد بن حميد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وابن عساكر، عن أبي ذرّ قال: قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً» قلت: كم الرسل منهم؟ قال: ثلثمائة وثلاثة عشر جمّ غفير.
وأخرج نحوه ابن أبي حاتم، عن أبي أمامة مرفوعاً إلا أنه قال: «والرسل ثلثمائة وخمسة عشر».
وأخرج أبو يعلى، والحاكم بسند ضعيف، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبيّ، ثم كان عيسى، ثم كنت أنا بعده».
وأخرج الحاكم، عن أنس بسند ضعيف نحوه.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ ولا أحد أحبّ إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه؛ ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين».

.تفسير الآيات (166- 171):

{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)}
قوله: {لكن الله يَشْهَدُ} الاسم الشريف مبتدأ، والفعل خبره، ومع تشديد النون هو منصوب على أنه اسم لكنّ، والاستدراك من محذوف مقدّر كأنهم قالوا: ما نشهد لك يا محمد بهذا، أي: الوحي والنبوّة، فنزل: {لكن الله يَشْهَدُ}. وقوله: {والملئكة يَشْهَدُونَ} جملة معطوفة على الجملة الأولى، أو جملة حالية، وكذلك قوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} جملة حالية، أي: متلبساً بعلمه الذي لا يعلمه غيره، من كونك أهلاً لما اصطفاك الله له من النبوّة، وأنزله عليك من القرآن {وكفى بالله شَهِيداً} أي: كفى الله شاهداً، والباء زائدة، وشهادة الله سبحانه هي: ما يصنعه من المعجزات الدالة على صحة النبوة، فإن وجود هذه المعجزات شهادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم بصدق ما أخبر به من هذا، وغيره.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} بكل ما يجب الإيمان به، أو بهذا الأمر الخاص، وهو ما في هذا المقام: {وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} وهو دين الإسلام بإنكارهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وبقولهم ما نجد صفته في كتابنا، وإنما النبوّة في ولد هارون وداود، وبقولهم إن شرع موسى لا ينسخ {قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً} عن الحقّ بما فعلوا، لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن الحق {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} بجحدهم {وَظَلَمُواْ} غيرهم بصدهم عن السبيل، أو ظلموا محمداً بكتمانهم نبوّته، أو ظلموا أنفسهم بكفرهم، ويجوز الحمل على جميع هذه المعاني: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} إذا استمروا على كفرهم، وماتوا كافرين {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} لكونهم اقترفوا ما يوجب لهم ذلك بسوء اختيارهم، وفرط شقائهم، وجحدوا الواضح، وعاندوا البين {خالدين فِيهَا أَبَداً} أي: يدخلهم جهنم خالدين فيها، وهي حال مقدّرة. وقوله: {أَبَدًا} منصوب على الظرفية، وهو لدفع احتمال. أن الخلود هنا يراد به: المكث الطويل {وَكَانَ ذلك} أي: تخليدهم في جهنم، أو ترك المغفرة لهم، والهداية مع الخلود في جهنم: {عَلَى الله يَسِيراً} لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] {فآمنوا خيراً لكم} اختلف أئمة النحو في انتصاب {خيراً} على ماذا؟ فقال سيبويه، والخليل بفعل مقدر، أي: واقصدوا، أو أتو خيراً لكم، وقال الفراء: هو نعت لمصدر محذوف، أي: فآمنوا إيماناً خيراً لكم، وذهب أبو عبيدة، والكسائي إلى أنه خبر لكان مقدّرة، أي: فآمنوا يكن الإيمان خيراً لكم، وأقوى هذه الأقوال الثالث، ثم الأوّل، ثم الثاني على ضعف فيه: {وَإِن تَكْفُرُواْ} أي: وإن تستمروا على كفركم: {فَإِنَّ للَّهِ مَا في السموات والأرض} من مخلوقاته، وأنتم من جملتهم، ومن كان خالقاً لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم، ففي هذه الجملة، وعيد لهم مع إيضاح وجه البرهان، وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان.
لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] قوله: {يأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ في دِينِكُمْ} الغلو: هو التجاوز في الحدّ، ومنه غلا السعر يغلو غلاء، وغلا الرجل في الأمر غلواً، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها. والمراد بالآية: النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى، فمن الإفراط غلوّ النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة، وما أحسن قول الشاعر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ** كلا طرفي قصد الأمورذميم

{وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله، ولا تقولوا الباطل كقول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى المسيح ابن الله {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله} المسيح مبتدأ، وعيسى بدل منه، وابن مريم صفة لعيسى، ورسول الله الخبر، ويجوز أن يكون عيسى ابن مريم عطف بيان، والجملة تعليل للنهي، وقد تقدّم الكلام على المسيح في آل عمران. قوله: {وَكَلِمَتُهُ} عطف على رسول الله، و{ألقاها إلى مَرْيَمَ} حال، أي: كوّنه بقوله كن، فكان بشرا من غير أب، وقيل: {كلمته} بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله: {إِذْ قَالَتِ الملئكة يامريم مَرْيَمَ إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ} [آل عمران: 45] وقيل: الكلمة هاهنا بمعنى: الآية، ومنه: {وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا} [التحريم: 12]، وقوله: {مَّا نَفِدَتْ كلمات الله} [لقمان: 27]. قوله: {وَرُوحٌ مّنْهُ} أي: أرسل جبريل فنفخ في درع مريم فحملت بإذن الله، وهذه الإضافة للتفضيل، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى. وقيل قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً ويضاف إلى الله، فيقال هذا روح من الله، أي: من خلقه، كما يقال في النعمة إنها من الله وقيل: {رُوحُ مِنْهُ} أي من خلقه كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في * السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ} [الجاثية: 13]: أي: من خلقه، وقيل: {رُوحُ مِنْهُ} أي: رحمة منه، وقيل: {رُوحُ مِنْهُ} أي: برهان منه، وكان عيسى برهاناً وحجة على قومه. وقوله: {مِنْهُ} متعلق بمحذوف وقع صفة لروح، أي: كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه، وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ: {فآمنوا بالله ورسله} أي: بأنه سبحانه إله واحد {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص: 2-4]، وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه، ولا تكذبوهم، ولا تغلوا فيهم، فتجعلوا بعضهم آلهة.
قوله: {وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة} ارتفاع ثلاثة على أنه خبر مبتدأ محذوف قال الزجاج: أي: لا تقولوا آلهتنا ثلاثة، وقال الفراء، وأبو عبيد: أي: لا تقولوا هم ثلاثة كقوله: {سَيَقُولُونَ ثلاثة} [الكهف: 22] وقال أبو علي الفارسي: لا تقولوا هو ثالث ثلاثة، فحذف المبتدأ والمضاف، والنصارى مع تفريق مذاهبهم متفقون على التثليث، ويعنون بالثلاثة: الثلاثة الأقانيم، فيجعلونه سبحانه جوهراً واحداً، وله ثلاثة أقانيم، ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود، وأقنوم الحياة، وأقنوم العلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب: الوجود، وبالروح: الحياة، وبالابن: المسيح. وقيل: المراد بالآلهة الثلاثة: الله سبحانه وتعالى، ومريم، والمسيح.
وقد اختبط النصارى في هذا اختباطاً طويلاً.
ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطل عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى: فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان، وتارة يوصف بأنه ابن الله، وتارة يوصف بأنه ابن الربّ، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين. والحق ما أخبرنا الله به في القرآن، وما خالفه في التوراة، أو الإنجيل، أو الزبور، فهو من تحريف المحرّفين، وتلاعب المتلاعبين. ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام.
وحاصل ما فيها جميعاً أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه، وذكر ما جرى له من المعجزات، والمراجعات لليهود ونحوهم، فاختلفت ألفاظهم، واتفقت معانيها، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ، والضبط، وذكر ما قاله عيسى، وما قيل له، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء، ولا أنزل على عيسى من عنده كتاباً، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة، ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها، وهكذا الزبور، فإنه من أوّله إلى آخره من كلام داود عليه السلام. وكلام الله أصدق، وكتابه أحق، وقد أخبرنا أن الانجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم، وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله عليه. قوله: {انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} أي: انتهوا عن التثليث، وانتصاب {خيراً} هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله: {فآمنوا خيراً لكم}. {إِنَّمَا الله إله واحد} لا شريك له ولا صاحبة ولا ولداً: {سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أي: أسبحه تسبيحاً عن أن يكون له ولد: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} وما جعلتموه له شريكاً، أو ولداً هو من جملة ذلك، والمملوك المخلوق لا يكون شريكاً، ولا ولداً: {وكفى بالله وَكِيلاً} فكل الخلق أمورهم إليه، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: «إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله»، قالوا ما نعلم ذلك. فأنزل الله: {لكن الله يَشْهَدُ} الآية.
وأخرج عبد بن حميد، والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته، أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر، فتناول عودا من الأرض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه.
وأخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود بأطول من هذا.
وأخرج البخاري عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله».